هجرة للحبشة:
لقد اعترضت قريش على الدعوة جُملة وتفصيلاً
فهم يشركون بالله، وينكرون اليوم الآخر، ويعترضون على القرآن والصحابة بمثل اعتراضهم
على شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم.
وتضاعف الأذى فكانت فكرة الهجرة كمخرج للمهتدين من
جهة .. ولفتح أفق جديد من آفاق الدعوة من جهة أخرى .. وكانت خيارات مكان الهجرة متعددة
.. لكن توفيق الله تعالى وإلهامه له صلى الله عليه وسلم جعله يطلب من بعض أصحابه الهجرة
إلى الحبشة .. فهاجروا في السنة الخامسة للبعثة .. وكان قد علم بتعليم الوحي له
وبحرصه على معرفة التوازنات السياسية مِن حوله أن فيها ملكاً عادلاً لا يُظلم عنده
أحد، وهذا الترتيب أشبه بما يسميه الناس باللجوء السياسي اليوم.
36. عودة ورجعة:
وقد أقاموا في الحبشة فترة وجيزة .. حتى أشيع أن
قريشاً قد أسلمت، لأنه صلى الله عليه وسلم قرأ سورةً فيها سجدة، فسجد مَن كان حول الكعبة
معه سجود رهبة لا إرادي .. لا سجود إيمان حقيقي.
وقد زعم بعض من سيخاصمهم الحبيب
صلى الله عليه وسلم أمام الله تعالى بأنه داهن المشركين وقَبِل السجود لأصنامهم كي
يسجدوا لله تعالى .. وهذا ما كان ولن يكون.
المهم هنا أن أصحابه بلغهم إشاعة وخبراً مكذوباً
يقول بإسلام قريش فرجعوا من الحبشة .. فعرف كفار مكة برجوعهم فتعرضوا لإيذاء مضاعف.
لأجل ذلك سمح لهم النبي صلى الله عليه وسلم في السنة
السابعة للبعثة بهجرة أخرى إلى الحبشة .. ولكنهم كانوا في هذه المرة قرابة المائة؛
بين كبير وصغير وذكر وأنثى وتاجر وسياسي وسيد وخادم، ومن مختلف القبائل .. مما شكَّل
ذلك خطراً على النسيج الاجتماعي في مكة.
عندئذ قرر كبراء مكة أن يبعثوا بهدايا مع رجلين
من رجالهم إلى الحبشة ليأتوا بأصحابه مكبلين مقيدين بالسلاسل إلى مكة .. وكان أن تم
رشوة من كان حول النجاشي من الرهبان قبل الدخول إلى مجلسه بالهدايا .. ثم لما دخلوا
مجلس النجاشي طلبوا تسليم أصحاب الحبيب صلى الله عليه وسلم لهم باعتبار أن أصحابه خرجوا
من دين قريش ولَم يدخلوا دين النجاشي.
فوفَّق الله الصحابة وحبيب النبي
صلى الله عليه وسلم وابن عمه (جعفر بن أبي طالب) رضي الله عنه ليرد هذه الفرية .. ويحكي
للنجاشي في حوار دافئ كيف كانوا قبل الاسلام وكيف صاروا بعده .. وكيف أن قومهم أهانوهم
وضيقوا عليهم وعذبوهم، فاختاروا الهجرة إلى بلده دون سواها من البلدان، لأنهم علموا
أنهم عنده لن يُظلموا أبداً.
38. توفيق الله الكبير:
أُعجب النجاشي بمنطق جعفر .. وطرد عمرو بن العاص ومن معه .. غير أنهما عادا
وطلبا من النجاشي أن يسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن رأيهم في أخيه عيسى عليه
السلام .. فكانت هذه ثقيلة عليهم كما حدثتنا المهاجرة الحبيبة أم سلمة (زوجة النبي
صلى الله عليه وسلم لاحقاً).
غير أن الله تعالى وفّق جعفر رضي
الله وردّ رداً حسناً أقنع النجاشي بأن عيسى عليه السلام نبي وعَبْدٌ مثله، وله هو
وأمه مريم مكانة رفيعة عند الله وعند المسلمين.
فطرد النجاشي عمرو ومن معه من مجلسه
.. وأصدر تعميمه بأن أصحاب الحبيب صلى الله عليه وسلم آمنون عنده .. وأن من سبهم سيُغرَّم
.. فانقلب سحر قريش ومكديتها عليها.
39. إقامة ناجحة وأهداف رابحة:
مكث أصحابه صلى الله عليه وسلم في دار النصارى مع
قوم متعصبون لنصرانيتهم، مختلفون في لغتهم وطباعهم؛ قرابة ال (١٣) عاماً .. لم يغيروا
ولم يبدلوا وحافظوا على ثقافتهم ودينهم وهويتهم بتوفيق الله وحفظه لهم .. لا بل وساهموا
في نشر الدين هناك .. لأن هدف هجرة الحبشة نشر الدعوة فضلاً عن حماية الدعاة.
وكان من أعظم ثمار دعوتهم؛ إسلام
ملك الحبشة (النجاشي)، الذي أسلم على يديه عمرو بن العاص رضي الله عنه لاحقاً.
وقد صلى الحبيب صلى الله عليه وسلم
على النجاشي صلاة الغائب لما مات .. وكان يبعث من يسأل عن أصحابه في الحبشة ويعلمهم
مستجدات الوحي والرسالة بين الحين والآخر.
40. عودة ميمونة:
ولو أنه صلى الله عليه وسلم وصله أن هويتهم وعقيدتهم
قد تأثرت في الحبشة لطلب رجوعهم إلى المدينة المنورة فور دخوله وهجرته لها لاحقاً
.. لكنه أذن لهم بالعودة في السنة السابعة للهجرة بعد أن تخلص من آخر حصن من حصون يهود
في المدينة وذلك عند فتح خَيْبَر.
وَيَا لسعادته عندما جاءه المسلمون
العائدون من الحبشة .. وقد أعطاهم من غنائم خَيْبَر .. وكان مما يقال بأنه قال حينها:
لا أدري بأيهما أسرِّ أكثر .. بفتح خَيْبَر .. أم بقدوم جعفر.
لقد ثبّت الله تعالى قلوب مهاجري
الحبشة .. وأيدهم بسلطة النجاشي .. وحماهم من الذوبان والانصهار في مجتمع الأغيار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق